في نهاية المقال السابق قلنا كم كان عام 1905 عامًا ليس مشهودًا فقط بالنسبة لأينشتاين، بل أيضًا للفيزياء. ففي ستة أشهر من ذلك العام نشر أينشتاين أربع ورقات بحثية، واحدة منها جعلته يحصل على نوبل وأخرى كانت تحتوي على نظرية النسبية الخاصة التي غيرت نظرتنا للكون.
ولكن عام أينشتاين المشهود لم ينته عند هذا الحد، فقد نشر بحثًا خامسًا، وهو آخر ورقة بحثية له في عام 1905. وفي هذا البحث قدم أينشتاين أطروحة أعمق من كل ما سبق، فخلال عمله على أوراقه البحثية الأربعة السابقة، لاحظ أينشتاين علاقة غريبة تجمع بين الطاقة والكتلة والضوء.
فقد وجد أينشتاين أن سرعة الضوء تمثل السرعة النهائية لحركة الأشياء في الكون، ولا شيء يمكن أن يتجاوزها. ويمكن تخيل الأمر لو ضربنا مثالًا بقطار منطلق بسرعة الضوء، وها نحن نحاول تزويده بالطاقة لنجعله يسرع أكثر فأكثر. لكن ما نلاحظه أن القطار ما زال لا يتخطى سرعة الضوء! فأين تذهب إذن هذه الطاقة التي يكتسبها القطار؟ المدهش أن أينشتاين قال أن الطاقة المكتسبة في هذه الحالة تختزن على هيئة كتلة إضافية في جسم القطار ذاته. وبهذا يرى أينشتاين أن كتلة القطار ستصبح أكبر لأن الطاقة الإضافية قد تحولت إلى كتلة!
إنها حقًّا فكرة عجيبة، حتى أن أينشتاين ذاته قد ذهل بها. فالوصول إلى أن الطاقة والكتلة لم يكونا يومًا شيئين مختلفين ولكنهما صورتان لأصل واحد تربطهما علاقة رياضية بسرعة الضوء هو شيء يثير الشكووك والقلق والذهول. وقد أرسل أينشتاين ورقته البحثية الخامسة عام 1905 للنشر والتي كانت عبارة عن ثلاث صفحات فقط، وهي تعد أعظم ثلاث صفحات في تاريخ الفيزياء والعلوم، فبها أثبت أينشتاين وأوضح للعالم أن الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء E=mc^2.
وبهذا تمكن موظف مكتب براءات الاختراع من تأليف لحن كوني جديد. كانت أوراقه البحثية الخمسة في عام 1905 هي حصيلة عشر سنوات من رحلة مطاردته للضوء. فطوال أربعة آلاف عام كنّا نظن أن عالم الأجسام “المادة” وعالم الحركة “الطاقة” عالمان منفصلان. ولكن أينشتاين جاء ليقول لا، إنهما ليسا منفصلين، فالطاقة يمكن أن تتحول إلى كتلة، والكتلة يمكن أن تتحول إلى طاقة.
إن هذا يكشف لنا عن وحدة عميقة بين مكونات الكون الذي نحن جزء منه. فبعد معادلة (الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء) توقف الفيزيائيون عن الحديث عن الطاقة والكتلة بكونهما شيئان منفصلان مختلفان، لأنهما قد أصبحا تبعًا لمعادلة أينشتاين الشيء ذاته. فقد تبين أن كل جزء من المادة في الكون يختزن بداخله كمية مذهلة من الطاقة. وهو شيء يدعونا للتساؤل من جديد حول ماهية المادة؟ وستكون الإجابة تبعًا لما توصل إليه أينشتاين بمعادلته الإعجازية أن المادة ما هي إلا تكثيف شديد لكمية هائلة من الطاقة! فلو تمكنا من تحرير كل الطاقة المختزنة في قلم الرصاص الذي أكتب به مسودة هذا المقال مثلًا، سيؤدي ذلك إلى إطلاق قوة تتشابه للغاية مع قوة القنبلة النووية! وهو شيء لم يمكن متخيلًا حتى في ذهن أينشتاين وهو يعمل على ورقته البحثية الخامسة.
الملفت للانتباه، أن أعظم سنة في تاريخ العلوم قد انتهت إلى صمت مطبق. فقد نُشِرت الأوراق البحثية والمقالات من دون أن تعطي أي صدى، ثم بدأت الأمور تتحرك، رسالة من هنا واستفسار من هناك، وطوال أربع سنوات راح أينشتاين يجيب عن كل تساؤل بجدية وأمانة محاولًا شرح أفكاره الصعبة المعقدة لعلماء الفيزياء. وفي هذه المدة ظهر معجبٌ واحدٌ بأفكار أينشتاين، ولحسن الحظ، كان هذا المعجب هو أهم فيزيائي ذلك العصر: البروفيسور ماكس بلانك. فقد تحمس ماكس بلانك لأفكار أينشتاين وتعامل معها بجدية، وكان نتيجة ذلك أن عيّن أينشتاين أستاذًا للفيزياء في جامعة زيورخ، ومن هنا انطلقت شهرته ونُصّب بعدها أستاذًا للفيزياء في برلين ليحقق شهرة عالمية ويصبح علما في بلاده. وبهذا أصبح أينشتاين أبا الفيزياء المعاصرة بلا منازع.
ألبرت أينشتاين مع ماكس بلانك
لقد وجد علماء الفيزياء في معادلة (الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء) الكأس المقدسة للعلوم. فهذه المعادلة أنبأت بمخزون الطاقة الهائل الكامن في الذرة. وقد ظن أينشتاين أن البدأ في سبر أغوار هذه الأفكار ربما يحتاج إلى مئة سنة من البحوث. ولكن العالم الشاب المسالم لم يكن ليتوقع أن الأمور ستسير بوتيرة أسرع مما توقع بكثير، وهي حكاية تحتاج إلى مقال آخر.
تعليقات
إرسال تعليق