الدرس الأول: مدخل
يرى تالكوت بارسونز أن التنظيم وحدة اجتماعية أو تجمع بشري منشأ ومعد بسابق وعي من أجل الوصول إلى أهداف خاصة. على ضوء هذا التعريف نحاول سبر أغوار مجالات إنسانية واجتماعية أصبحت جزء من الحياة إن لم نقل هي الحياة نفسها.
نحاول في هذا المدخل أن نلم بنقط ثلاث أساسية نعتبرها ضرورية بالنسبة لدرس يريد أن يكون تأهيليا يقدم معارف أولية بالنسبة لمتلق لا يملك سوى تمثلات عامة حول الموضوع. والنقط هي: لماذا سوسيولوجيا التنظيم؟ تعريف التنظيم وتاريخ التنظيم.
1 لماذا سوسيولوجيا التنظيم؟
ـ المبررات السوسيولوجية:
من أجل التدقيق أكثر يمكن أن نفصل السؤال إلى أسئلة ثلاثة تفصيلية: كيف نشأت هذه السوسيولوجيا في موطنها الأصلي؟ وكيف أصبحت ضرورة دولية؟
أما بالنسبة للموطن الأول لسوسيولوجيا التنظيم، فرغم كون البدايات أوروبية ( دوركايم وأشكال التضامن_ الآلي والعضوي_ فيبر والبيروقراطية..) فإن سوسيولوجيا التنظيمات بمعناها الدقيق المتخصص لم يبدأ إلا مع تايلور في الولايات المتحدة الأمريكية.
أما شروط ظهور هذا التخصص الجديد فواضحة وواقعية وحقيقية وهي المشاكل التي أفرزتها الصناعة والمقاولة سواء على مستواها الداخلي وبنيتها أم على مستوى علاقاتها بمحيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وبذلك فالمنطلق كان ضرورة اجتماعية تاريخية وليست ترفا فكريا. ومن ثمة فسوسيولوجيا التنظيمات لم تكن يوما ما أدبا رغم كون التخصصات الجديدة_ التسيير والتسويق_ يمكن أن توحي بذلك. خاصة أن سوسيولوجيا التنظيمات وكذلك أنثربولوجيا التنظيمات الآن أصبحت تسوغ المقاربة الإنسانية للمقاولة وأي تنظيم بربطه بمحيطه الثقافي.
دوليا بدأ تنامي الوعي بأهمية استراتيجية حياة التنظيمات والمؤسسات مع نهاية الحرب الثانية، وذلك نظرا للتطور التكنولوجي من جهة والمنافسة الدولية من جهة ثانية، وتنامي المشاكل الاجتماعية التي نجمت عن التنظيم المؤسساتي للشغل من جهة ثالثة. إلى حد أنه يمكن أن نتحدث الآن عن ثورة تنظيمية حقيقية وذلك ارتباطا بالتواصل والمعلوميات، لينتهي المجتمع الصناعي بعتبير الآن تورين، دون أن ينتهي المجتمع التنظيمي، لقد بدأ الوعي التسييري يتجاوز المشاكل التقنية والتسويقية للإنتاج، حيث تم ضبط الأولى بالبحث العلمي والتنموي والثانية بالمحاولة والخطأ وتراكم التجارب.
لقد ظهرت مشاكل تنظيمية جديدة مثل عدم انسجام الوظائف المتشابهة والمتنافسة، المال والتقنية مثلا، مشاكل السلطة والهيمنة والتواصل.. إلى غير ذلك من المعضلات التي لا يمكن للمهندس التقنوقراطي بالمفهوم السانسيموني أن يجد لها حلا تقنيا، كما أن علم نفس المقاولة بمفرده ومقاربة النجاعة لم يعد كافيا.
من هنا ضرورة تخصص يهتم بالأبعاد الجمعية، غير التقنية وغير الفردية للمنتسبين لتنطيم وفق مساطر معلنة يتوخى أهدافا دقيقة.
لقد ارتبطت التنظيمات ومنذ البداية بالعقلانية والنجاعة والربح، غير أن بعضها يمكن أن يحيد عن كل هذا فتغلب عليه الانحرافات، بل ويمكن لأي تنظيم أن يفلس وينقرض، والأمر ليس لأسباب خارجية مثل السوق دوما، بل ولأسباب تنظيمية إلى الحديث اليوم عن الرأسمال التنظيمي الذي لا يقل قيمة عن الرأسمال المالي.
أما بالنسبة لمجتمعنا والذي لا تزال فيه التنظيمات "االطبيعية" مثل القبيلة والزاوية والعائلة والزبونية، وهي تنظيمات أصبحت بناها ووظائفها وأهدافها تضيق عن علاقتنا مع العالم من جهة ومع التنمية من جهة أخرى، فهناك ضرورة التنظيم الاجتماعي الحداثي لننتقل من المجتمعات التقليدية التي تعيد إنتاج نفسها إلى المجتمعات المبدعة وفق التنظيمات الملائمة للإبداع والتنمية والمعرفة والابتكار.
صحيح أن الثمن الاجتماعي للتنظيم العقلاني ليس بسيطا، وصحيح أن التنظيمات العصرية تنتج الكبت والقلق والاستلاب..غير أن فوائدها أكثر بكثير من تكلفتها وآثارها الجانبية، كما أن هذه الآثار نفسها أصبحت من مهام سوسيولوجيا التنظيمات التي تحاول تجاوزها أو علاجها أو التخفيف من حدتها على الأقل.
تعليقات
إرسال تعليق