"شرق المخيلة": قراءة في رواية البوصلة لماتياس إينار
هذه البوصلة المضللة، لا تشبهُ إلا كتابًا كبيرًا جدًّا، يستطيع أن يبتلع كل شيء. أغنيةٌ واحدةٌ عذبة، هي نفسها التي خلقت كتابًا مثل "دون كيشوت"، الذي يدعي ثربانتس أنه أخذه من عربي أندلسي. هذه الروابط الدقيقة، أو خيوط العنكبوت التي تكتب عنها كاملة شمسي، الخيوط الخفية التي تشع مثل أردية مطفئي الحرائق، خيوطٌ تربط الشرق بالغرب، متداخلة، عصية، ما إن تبدأ في تفكيكها حتى تموت العنكبوت وينهار بيتها الذي هو "أوهن البيوت"!
هذا الشرق الذي يرسمه إينار، "شرق المخيلة" الذي يدوخ المستشرقين ويصيبهم بالمرض والجنون والحب، كما يصيب المشرقيين الأصليين الذي يبحثون أيضًا عن سندباد الليالي العربية في بغداد، متحسسين صوت شهرزاد الحي الذي ولد مختبئًا وسيظل أبدًا مختبئًا في شرقٍ بعيدٍ، لا تحده الجغرافيا والحروب الحديثة وثورات الربيع وخراب بابل والسبي اليهودي وانهيار سد مأرب والبحث عن جنان إرم المطمورة، شرقٌ لا يسكن إلا المخيلة وألف ليلة وليلة التي ما إن تتورط فيها حتى تضيع مثل مستشرقي إينار، تعاقبهم شهرزاد بالتيه الأبدي بحثًا عنها، في الأفيون أو تكيات الصوفيين، أو في بغداد المريضة التي لم تعد تتسع لحكايات شهرزاد، أو في تركيا التي تكبر مدنها لتخفي معالم الشرق الفاتنِ القديمِ، وحتى في صحراء تدمر الحارقة نهارًا الجليدية ليلًا، تدمر السجون والدمار والخوف والقمع. أهذا ما كانوا يبحثون عنه؟
عن تراثٍ يسرقونه من أيام ناپوليون وحتى اليوم، متجاهلين الشارع الشرقي الغارق في الفقر والوجع والدم وأحلام ثورةٍ سُرقت، تراث يتواطأ مع الإمبريالية كما يقول إدوارد سعيد، تراث يحاول إينار أن يمنحهُ المعنى وأن ينقذ ما تبقى من روحهِ مدافعًا عن مستشرقينَ ينبذون السلطات ومشاريعها الاستعمارية في الشرق، منهمكين في دراسة الشارع والإنسان العادي البائس المستلَب، في السوري الذي أذله الاستعمار وأنهكته ونهشته الأنظمة الفاسدة الطاغية في سجون تدمر وحلب وحمص ودمشق التي لم تعد تتسع لأحد، الإنسان الذي يهديه إينار هذا العمل الأدبي مانحًا إياه البوصلة التي لا تشير إلا إلى الشرق، لكنه يحذره، هذا الشرق الحُلم "الفردوس"، ليس شرق العربي والفارسي والتركي بل "شرق المخيلة"، شرقٌ يشبه برج بابل، أو برج المجانين كما يقول، يوحدنا جميعًا ويرفعنا إلى السماء دون أن يعاقبنا الله بهدمهِ، لأنه برجٌ يتشرب اللغات كلها، يضع الخيَّام مع پيسوا في مرتبة واحدة، لا يرسم جسرًا بين شرق وغرب، بل يكسر المسافة، يعيد إليهما اتزانهما وحكاياتهما المشتركة، المتداخلة المتشابكة. وأن يفضح تشابه الحكايات والأدب والفن والموسيقى، فهل هذا الشرق المتخيل مدينة فاضلة أخرى؟ مدينة طوباوية وفردوس مفقود حديث؟ من يدري؟ الفن راوغ التاريخ والمسافات والحروب الأبدية وهمش الزمن وخلط الأماكن والناس ببعضهم بعضًا، "فلا الشرق شرقٌ تمامًا ولا الغرب غربٌ تمامًا" كما يقول درويش.
ماتياس إينار في عمله البديع هذا يرسم بوصلة جديدة، بوصلة الفن التي لن تقودك إلا إلى هذا الخليط الإنساني منذ سقوط آدم وحتى طوفان نوح وصلوات إبراهيم وكبش الفداء، وحتى يعقوب "إله المناحة" كما يقول فاضل الربيعي، يعقوب الإسلام والتوراة والإنجيل والحكايات الشعبية، حتى عيسى المصلوب والمرفوع إلى الله، عيسى الجميع من الصين حتى أمريكا، مرورا بمحمد -عليه السلام- وحتى حكايات الليالي العربية وذاكرة الشعوب التي تتخيل عظمة أجساد بناة "إرم"، وصولا إلى حروب اليوم وصراعات السياسة الحديثة التي لا تختلف كثيرا عن صراعات القبائل البدائية.
إينار يكتب حكاية عن الإنسانية التي يصارع بعضها بعضًا منذ الأزل وحتى اليوم، إنسانية لم تنضج بعد ولم تحترق جيدا كما يدعي ليڤي شتراوس، إنسانية تحتاج إلى بوصلة المخيلة الجمعية الفاتنة المدعومة بالفن والحب والحكاية حتى تنضج جيدًا.
جميل جدا
ردحذف